وفقا لتقرير قسم الشؤون الدولية لوكالة أنباء الحوزة فإنّ تاريخ العراق الحديث امتزج بجرائم الحكام البعثيين وعدائهم للدين والحوزة العلمية والشعائر الحسينية وأحكام القرآن الكريم، فبعد تسلّط البعثيين على الشعب العراقي المسلم بدأوا بفرض القيود والمصاعب والرقابة المشدّدة، وعاملوا زائري سيد الشهداء (عليه السلام) ومقيمي العزاء عليه بأبشع الصور اللا إنسانية، إلا أن الناس سعوا في حفظ شعائر عاشوراء وخاصة المشي على الأقدام لزيارة سيد الشهداء (عليه السلام) مهما كلّفهم ذلك، إلى أن انتهى المطاف بهم لإيجاد أرضية لمواجهة النظام بتنظيم تحرّك ضخم وذلك اثر التوجيهات الرسمية من قبل حزب البعث في حظر السير مشياً على الأقدام عام 1397 قمرية، فقامت القوات الحكومية وباستخدام الدبابات والعربات المدرعة والطائرات بسحق مسيرة زائري الإمام الحسين (عليه السلام) المشاة على الأقدام على طريق (النجف - كربلاء)، وألقي القبض على الآلاف منهم، وتعدّ هذه الثورة - والتي تعرف بانتفاضة صفر الخير أو انتفاضة الأربعين - صفحة مجيدة في تاريخ أتباع أهل البيت (عليهم السلام).
وفي هذا الإطار قام حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد الحسون (مدير مركز الأبحاث العقائدية) الشاب البالغ أنذاك السابعة عشر من عمره والذي كان ضمن جموع زائري الأربعين ثم سجن وعذب، قام بشرح تفاصيل هذه الانتفاضة في مقابلة مع وكالة أنباء الحوزة، وما يلي مقتطفات من هذه المقابلة:
أسس ومباني زيارة الأربعين مشياً على الأقدام
ذكرت المصادر الحديثية استحباب زيارة سيد الشهداء (عليه السلام) سيرا على الأقدام، كما ذكرت المصادر التاريخية أنّ جمع من العلماء وطلبة العلوم الدينية كانوا يشدّون الرحال من النجف نحو كربلاء مشياً على الأقدام في زمن الشيخ الأنصاري (المتوفى 1261 للهجرة) إلا أن هذه الحركة كانت محدودة حتى عصر المحدث النوري (المتوفى عام 1320 للهجرة) حيث اتّسعت شيئاً ما، وقد ذكر هذا الأمر بشكل مفصل في مقدّمة كتاب مستدرك الوسائل وأنّ النجفيين كانوا يبيتون ثلاث ليال في الطريق، ويسيرون من النجف إلى كربلاء.
كيفية تعامل البعثيين مع الشيعة في بداية السلطة:
عند وصول البعثيين للسلطة عام 1968 م، لم تكن لهم قدرة كبيرة، ولكسب رضا الجمهور كانوا يساعدون مجالس العزاء، الهيئات والمواكب الحسينية، حتى انّ السيد عبد الرزاق الحبوبي محافظ النجف حينها - والذي كان جيراننا - كان يزور المراجع والعلماء ويقبّل أياديهم ويساعد الهيئات الحسينية.
بداية الضغط على الشيعة، وحظر زيارة الأربعين مشياً على الأقدام:
استمرت الأمور على هذه الحال حتى خمس سنوات، ثم ازداد الضغط تدريجياً ضد الشيعة ومراسيم العزاء، فكانوا يختلقون عوائق جديدة لعزاء سيد الشهداء (عليه السلام) في كل عام، إلى أن أعلنت الحكومة العراقية عن حظر زيارة كربلاء مشياً على الأقدام عام 1977 م (الموافق 1397 هـ ق)، فكان البعثيون يهدّدون الناس بصورة رسمية من الذهاب لزيارة الأربعين، إلا أن شباب النجف الأشرف كانوا متفقين على برنامج السير على الأقدام لزيارة الحسين (عليه السلام)، وقد اجتمع عدد من الشباب المنظمين لهذه الحركة من المحلات المعروفة الأربع في النجف، وقرّروا بدء المسيرة من النجف نحو كربلاء قبل أربعة أيام من يوم الأربعين.
كنت حينها أبلغ من العمر 17 عاما، وكان في يد كل من الزوار علم صغير كتب عليه عبارة "يا حسين"، كما كان في مقدّمة المسيرة علم كبير أخضر كتبت عليه الآية الكريمة : يد الله فوق أيديهم.
حيرة البعثيين أمام حركة شباب النجف المتماسكة والمتكاملة
كنّا في البداية مئات الأشخاص، إلا أن محلات النجف أغلقت، وبازدياد الناس تدريجياً وصل عددنا إلى الآلاف، وكان من الواضح أن البعثيين احتاروا ولم يتصوّروا أن يواجَهوا بحركة متماسكة ومتكاملة كهذه.
وكان الحماس الثوري عند الشباب بحد دعانا لدخول مرقد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من جهة باب الساعة في ابتداء المسيرة هاتفين: يا حسين يا حسين، وفي هذه الأثناء كسر أحد الشباب صورة أحمد حسن البكر (رئيس جمهورية العراق أنذاك) وصدام (معاون رئيس الجمهورية حينها).
الهجوم على زائري سيد الشهداء (عليه السلام):
يتوقف سائر النجفيين في مسير المشي نحو كربلاء في ثلاثة أماكن ويبيتون فيها، وهي خان الربع، خان النصف وخان النخيلة.
وصلنا في اليوم الأول إلى خان الربع، وكان البعثيون يبعثون برسائل تهديد كي لا نكمل المسير، إلا أن زوار سيد الشهداء (عليه السلام) كانوا عازمين على الاستمرار.
حتى وصلنا في اليوم الثاني إلى خان النصف (الواقعة في منتصف الطريق بين مدينتي النجف وكربلاء)، فهاجم البعثيون جموع الزائرين، واستشهد أحد الشباب، فذاع خبر الحادث بسرعة، وكانت الأوضاع في النجف غير مستقرّة ومتشنّجة، وكان قد التحق العديد من الناس بالزوار فكثرت الأعداد.
وصلنا في اليوم الثالث إلى خان النخيلة، وما أن أردنا البدء في المسير حتى طوقتنا قوات الجيش بالدبابات والغطاء العسكري والأسلحة العسكرية، وفي الوقت نفسه حلّقت في السماء طائرتان، وكانتا تطيران على مقربة من الجموع لتخويف الناس وترويعهم.
الاعتقال والانتقال إلى معسكر الرشيد في بغداد:
اجتمع زوار سيد الشهداء (عليه السلام) جنبا إلى جنب، وكان يشجّع بعضهم البعض الآخر، إلى أن انقسموا قسمين، فسلك بعضهم طريقاً فرعياً من خلال البساتين والقرى المجاورة للشارع، وبقي البعض الآخر في الشارع العام. علمنا بعد ذلك أنّ من ذهب منهم عن الطريق الفرعي وصلوا إلى كربلاء، إلا أنّا كنّا محاصرين من قبل قوات البعث، وكانوا يضيّقون خناق المحاصرة باستمرار، حتى قاموا باعتقال الكل، وذهبوا بنا إلى كربلاء في سيارات الشرطة، وقضينا عدّة ساعات في دائرة المخابرات حتى كتبوا أسمائنا، ثم ذهبوا بنا في سيارات خاصة لنقل السجناء إلى بغداد، وكان السجناء يودعون في مكان يشبه القفص، ثم أدخلونا معسكر الرشيد في بغداد وكان معسكراً كبيراً.
السجن في زنزانة تعد بنفسها تعذيباً:
ثم أدخلونا زنزانة "الرياضة" التي لم نفهم وجها لتسميتها بهذا الاسم، إلا أنّ البقاء فيها كان يعد تعذيباً في حد ذاته ؛ وذلك لأنّها كانت عبارة عن غرفة تبلغ مساحتها أقل من 12 مترا، كان لون الحائط فيها والأرضية أسوداً، وكانت تحتوي على باب كباب القاصة يقع في وسطه منفذ صغير، ولم تحتو الغرفة على إضاءة، وإنّما كان في كل الممر ضوءا واحداً لإضاءة سائر الغرف!
كانوا قد جمعوا 40 شخصا في هذه الغرفة البالغة أقل من 12 مترا، فلم يكن أي منهم قادراً على الحركة، ولم يقدموا لنا الماء والغذاء لمدة 48 ساعة، حتى أنّهم لم يسمحوا لنا بالتخلي.
ينبغي ذكر هذه الأمور كي يعلم الناس أنّ البعثيين إذا كانوا قد واجهونا نحن الذين لم نفعل شيئا سوى المشاركة في مسيرة الأربعين بهذه الكيفية، فكيف بتعاملهم مع المجاهدين؟!
ومن باب الاتفاق رأيت في تلك الزنزانة أسماء خمسة من أعضاء حزب الدعوة، منهم: الشيخ عارف البصري، عز الدين القبانجي، والسيد التبريزي الذين كانوا قد حكّوا أسمائهم على الجدار، وكان قد أعدم الحزب هؤلاء سنة 1975 م.
قضينا ليلتين كاملتين في هذه الغرفة، ولم يكونوا يسمحوا لأحد بالخروج للتخلي وقضاء الحاجة، فكانت الضروف صعبة جداً، وأصيب الكثير من السجناء في تلك الفترة بأمراض الكلى والتهاب القولون وغيرها من الأمراض التي ما زالوا يعانون منها لحد الآن.
وبعد ليلتين أعطونا الطعام، إلا أن الطعام كان رديئاً بحيث أصيب الكل بالإسهال، وأصبحت ظروف الزنزانة صعبة للغاية.
حرب نفسية، استجواب وسياط:
ثم بدأ التحقيق والاستجواب، كنًا شبابا ولم تكن لنا تجارب سابقة عن السجن والتعذيب، عصبوا عيوننا وقبل الدخول لغرفة الاستجواب سمعنا صوت شخص كان يستنجد برجال الأمن، وقال بعد ثوان: "اعترف، لا تضربوني سأعترف". نعم علمنا بعد مدّة أن تلك الأصوات كانت أصواتاً مسجلة وكانوا يريدون ايجاد حرب نفسية للسجناء، وذلك كي يخسر الشباب ثقتهم بأنفسهم ويعترفوا بسهولة.
عندما دخلت غرفة التحقيق سألني المحقق: لماذا أتيت؟ فأجبته: جئت لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، ثم شدوا يديَّ بالخشبة وانهالوا عليَّ بالسياط، عندما ضربت السوط أول مرة أحسست أنّ أنفاسي قد توقّفت، فتوسلت بالسيدة الزهراء (عليها السلام) في تلك اللحظة لأجد قوّة ولا أعترف، وذلك لأنهم كانوا يريدون التعرّف على المؤسّسين ومن قام بإدارة هذه المسيرة من خلال الاستجواب، لم أحسّ بألم السوط الثالث فما بعد، وفقدت وعيي، عندما فتحت عيني ضربني المحقق صفعات قوية في وجهي، ثم أعطاني منديلا، تصوّرت في البداية أنّه لتنظيف أنفي، إلا أنّي شعرت لاحقاً أنّ الدماء تسيل من أذني.
ذهبوا بنا إلى غرفة أخرى بعد الاستجواب، وكانت أكبر من تلك الغرفة شيئا ما، إلا أنهم كانوا يتعاملون بقسوة أيضاً مع من كان يريد الذهاب للتخلي، وكانوا يضربون الشباب عندما كانوا يخرجون للتخلي بذرائع مختلفة، كان الضباط في السجن شباباً يرتدون زياً أنيقاً حسب الظاهر، وعلمت لاحقاً أنهم تربّوا في الحضانات، وجذبهم البعثيون بعد ذلك.
لم تكن هذه الأمور تعذيباً، كانت مزاحاً!!
مجموع الأيام التي قضيتها في السجن بلغت 12 يوماً، جاؤوا في اليوم الأخير بلائحة من الأسماء، فقرؤوها وكان اسمي من بينها، فأخرجونا من السجن، وقال لنا أحد الضباط البعثيين قبل الافراج عنا: لا تتصوّروا أنّا قمنا بتعذيبكم، لم نعذبكم ولم تكن هذه الأعمال سوى مزاحاً! نحن نُذوِّب الحديدَ هنا!
لم يُسمع صوت عن الانتفاضة في وسائل الإعلام الإيرانية:
كانت العلاقات بين حزب البعث ونظام الشاه في إيران جيدة حينها، فلم تُعكس هذه الواقعة المهمّة في وسائل الإعلام الإيرانية، إلا أنّ ما حصل بعد انتفاضة صفر أنّ الشباب بدأوا يتجرّأون بالوقوف أمام حزب البعث، وخاصة بعد اتّضاح وجهة حزب البعث المخالفة للدين للناس أكثر من السابق.
المعطيات السياسية والاجتماعية لانتفاضة العراق:
حكم على ثمان أشخاص بالإعدام و على 15 نفرا بالحبس المؤبد اثر هذه الواقعة، الأمر الذي أدّى إلى كراهية عامة عند الناس بالنسبة للبعثيين. كما دخل حزب الدعوة والمجاهدون العراقيون على الخط فانجذب العديد من الشباب لحزب الدعوة، وشكّلت المجاميع تلو المجاميع من الشباب التي كانت تخالف حزب البعث، وحتى أنّ من لم يكن مرتبطاً بحزب الدعوة صار نشطاً في المجالات المخالفة لهذا الحزب.
لم تنشر أي من الأنباء عن انتفاضة الشعب في وسائل الإعلام، وذلك للاختناق الحاكم حينئذ، ولكنّي أرى أنّ وسائل الإعلام لم تؤدِّ حق هذه الانتفاضة، وينبغي أن يسلّطوا الضوء على هذه الانتفاضة كل عام، ويدرسوا الأبعاد المختلفة لها.
وقعت هذه الانتفاضة قبل عامين من انتصار الثورة الإسلامية في إيران، ومن معطيات هذه الانتفاضة أن أعين الناس في النجف وكربلاء وسائر المدن الشيعية في العراق صارت ناضرة للثورة الإسلامية في إيران.